مُعَاذ بنُ جَبَل
***
((أعلمهم بالحلال والحرام))
عندما كان الرسول عليه الصلاة والسلام يبايع الأنصار بيعة العقبة الثانية ، كان يجلس بين السبعين الذين يتكوّن منهم وفدهم ، شاب مشرق الوجه ، رائع النظرة ، برّاق الثنايا .. يبهر الأبصار بهدوئه وسَمْتِه ، فإذا تحدّث ازدادت الأبصار انبهاراً ..!!
ذلك كان ((معاذ بن جبل)) ـ رضي الله عنه ـ ..
هو إذاً رجل من الأنصار ، بايع يوم العقبة الثانية ، فصار من السابقين الأولين .. ورجل له مثل أسبقيته ، ومثل إيمانه ويقينه ، لا يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشهد ولا في غزوة ، وهكذا صنع معاذ ..
على أن آلق مزاياه ، وأعظم خصائصه ـ كان فقهه ..
بلغ من الفقه والعلم المدى الذي جعله أهلاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم عنه :
((أعلم أمّتي بالحلالِ والحرامِ ، مُعاذ بن جبل)) ...
وكان شبيه عمر بن الخطاب في استنارة عقله ، وشجاعة ذكائه ؛ سأله الرسول صلى الله عليه وسلم حين وجّهه إلى اليمن : ((بِمَ تقضي يا معاذ))؟
فأجابه قائلاً : ((بكتاب الله)) ..
قال الرسول صلى الله عليه وسلم : ((فإن لم تَجِد في كتاب الله)) ...؟؟
قال معاذ : ((أقضي بسنّة رسوله)) ...
قال الرسول صلى الله عليه وسلم : ((فإن لم تجد في سنّة رسوله)) ..؟؟
قال معاذ : ((أجتهدُ رأيي ، لا آلُو)) ...
فتهلّل وجه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال :
((الحمد لله الذي وفّق رسول الله لما يُرضي رسول الله)) .
فولاء معاذ لكتاب الله ، ولسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم لا يحجب عقله عن متابعة رؤاه ، ولا يحجب عن عقله تلك الحقائق الهائلة المستسِرّة ؛ التي تنتظر من يكتشفها ويواجهها .
ولعل هذه القدرة على الاجتهاد ، والشجاعة في استعمال الذكاء والعقل ، هما اللتان مكّنتا معاذاً من ثرائه الفقهي الذي فاق به أقرانه وإخوانه ، وصار ـ كما وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم ـ :
((أعلم الناس بالحلال والحرام)) .
وإن الروايات التاريخية لتصوره ـ حيثما كان ـ العقل المضيء الحازم الذي يحسن الفصل في الأمور .. فهذا ((عائذ بن عبد الله)) يحدّثنا أنه دخل المسجد يوماً مع أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في أول خلافة عمر .. قال :
((فجلستُ مجلساً فيه بضع وثلاثون ، كلهم يَذكرون حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي الحلقة شاب شديد الأدمَة ، حلو المنطق ، وضيء ، وهو أشبُّ القوم سِنّاً ، فإذا اشتبه عليهم من الحديث شيء ردّوه إليه فأفتاهم ، ولا يحدّثهم إلا حين يسألونه ، ولمّا قُضِيَ مجلسهم دنوتُ منه وسألته :
مَن أنت يا عبد الله ؟؟ .. قال : أنا مُعاذ بن جبل)) .
وهذا أبو مسلم الخولاني يقول :
((دخلتُ مسجد ـ حمص ـ فإذا جماعة من الكهول يتوسّطهم شاب برّاق الثنايا ، صامت لا يتكلم .. فإذا امترى القوم في شيء توجّهوا إليه يسألونه .. فقلت لجليس لي : مَن هذا ..؟ قال : مُعاذ بن جبل .. فوقع في نفسي حُبُّه)) .
وهذا شهر بن حَوْشب يقول :
((كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تحدّثوا وفيهم معاذ بن جبل ، نظروا إليه هيبةً له)) ..
ولقد كان أمير المؤمنين عمر ـ رضي الله عنه ـ يستشيره كثيراً .. وكان يقول في بعض المواطن التي يستعين فيها برأي معاذ وفقهه : ((لولا معاذ بن جبل لَهَلَك عمر)) ..
ويبدو أن معاذاً كان يمتلك عقلاً أحسن تدريبه ، ومنطقاً آسراً مقنعاً ، ينساب في هدوء وإحاطة .. فحيثما نلتقي به من خلال الروايات التاريخية عنه ، نجده كما أسلفنا واسطة العِقْد .. فهو دائماً جالس والناس حوله .. وهو صموت ، لا يتحدث إلا على شوق الجالسين إلى حديثه ... وإذا اختلف الجالسون في أمر ، أعادوه إلى معاذ ؛ ليفصل فيه .. فإذا تكلم ، كان ـ كما وصفه أحد معاصريه ـ :
((كأنما يخرج من فمه نور ولؤلؤ)) ...
ولقد بلغ كل هذه المنزلة في علمه ، وفي إجلال المسلمين له ، أيام الرسول صلى الله عليه وسلم وبعد مماته ، وهو شاب .. فلقد مات معاذ في خلافة عمر ولم يتجاوز من العمر ثلاثاً وثلاثين سنة ..!!
وكان معاذ سَمْح اليد ، والنفس ، والخلق .. فلا يسأل عن شيء إلا أعطاه جزلان مغتبطاً .. ولقد ذهب جوده وسخاؤه بكل ماله .
ومات الرسول صلى الله عليه وسلم ومعاذ باليمن منذ وجّهه النبي إليها يعلّم المسلمين ويفقّههم في الدين .. وفي خلافة أبي بكر رجع معاذ من اليمن ، وكان عمر قد علم أن معاذاً أثرى .. فاقترح على الخليفة أبي بكر أن يشاطره ثروته وماله ..!! ولم ينتظر عمر ، بل نهض مسرعاً إلى دار معاذ وألقى عليه مقالته ..
كان معاذ طاهر الكفّ ، طاهر الذمة ، ولئن كان قد أثرى ، فإنه لم يكتسب إثماً ، ولم يقترف شبهة ، ومن ثم فقد رفض عرض عمر ، وناقشه رأيه .. وتركه عمر وانصرف ...
وفي الغداة ، كان معاذ يطوي الأرض حثيثاً شطر دار عمر .. ولا يكاد يلقاه .. حتى يعانقه ودموعه تسبق كلماته ويقول :
((لقد رأيت الليلة في منامي أني أخوض حَوْمة ماء ، أخشى على نفسي الغرق ، حتى جئت فخلصتني يا عمر)) .
وذهبا معاً إلى أبي بكر .. وطلب معاذ إليه أن يشاطره ماله ، فقال أبو بكر :
((لا آخذ منك شيئاً)) ..
فنظر عمر إلى معاذ وقال له :
((الآن حلّ وطاب)) ..
ما كان أبو بكر الورِع ليترك لمعاذ درهماً واحداً ، لو علم أنه أخذه بغير حقّ .. وما كان عمر متجنياً على معاذ بتهمة أو ظن .. وإنما هو ((عصر المُثُل)) كان يزخر بقوم يتسابقون إلى ذُرى الكمال الميسور ، فمنهم الطائر المحلّق ومنهم المهرول ، ومنهم المقتصد .. ولكنهم جميعاً في قافلة الخير سائرون .
ويهاجر معاذ إلى الشام ، حيث يعيش بين أهلها والوافدين عليها معلّماً وفقيهاً ، فإذا مات أميرها أبو عبيدة الذي كان الصديق الحميم لمعاذ ، استخلفه أمير المؤمنين عمر على الشام ، ولا يمضي عليه في الإمارة سوى بضعة أشهر حتى يلقى ربّه مخبتاً منيباً ...
وكان عمر ـ رضي الله عنه ـ يقول :
((لو استخلفتُ معاذ بن جبل ، فسألني ربّي : لماذا استخلفته ؟ لقلت : سمعتُ نبيّك يقول : إنّ العلماء إذا حضروا ربّهم ـ عزّ وجلّ ـ كان معاذ بين أيديهم)) ..
والاستخلاف الذي يعنيه عمر هنا ، هو الاستخلاف على المسلمين جميعاً ، لا على بلد أو ولاية ..
فلقد سئل عمر قبل موته : لو عهدت إلينا ..؟ أي : اخترت خليفتك بنفسك وبايعناك عليه؟؟..
فأجاب قائلاً :
((لو كان معاذ بن جبل حيّاً ، ووَلّيته ، ثم قَدِمتُ على ربّي ـ عزّ وجلّ ـ فسألني : مَن وَلّيت على أمّّة محمد ، لقلت : ولّيت عليهم معاذ بن جبل ، بعد أن سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : معاذ بن جبل إمام العلماء يوم القيامة)) .
قال الرسول صلى الله عليه وسلم يوماً :
((يا معاذ .. والله إني لأحبّكَ فلا تنسَ أن تقول في عقِب كل صلاة
(اللهم أعنِّي على ذِكرك ، وشكرك ، وحُسن عبادتك)) ..
أجل .. اللهم أعنّي .. فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم دائب الإلحاح على هذا المعنى العظيم الذي يدرك الناس به أنه لا حول لهم ولا قوة ، ولا سند ولا عون إلا بالله ، ومن الله العلي العظيم ..
ولقد حذِق معاذ الدرس وأجاد تطبيقه ..
لقِيهُ الرسول صلى الله عليه وسلم صباح فسأله : ((كيف أصبحتَ يا معاذ)).؟؟
قال : ((أصبحتُ مؤمناً حقّاً يا رسول الله)) .
قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((إنّ لكل حق حقيقة ، فما حقيقة إيمانك)) ..؟؟
قال معاذ : ((ما أصبحتُ صباحاً قطّ ، إلا ظننتُ أني لا أُمسِي .. ولا أَمسَيتُ مساء إلا ظَننتُ أني لا أُصبح ..
ولا خطوتُ خطوة إلا ظننتُ أني لا أُتبِعُها غيرها ..
وكأني أنظر إلى كل أمة جاثية تُدعى إلى كتابِها ..
وكأني أرى أهل الجنة في الجنة يُنعّمون ..
وأهل النار في النار يُعَذّبون ... )) .
فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : ((عرفتَ فالزمْ)) ..
أجل لقد أسلم معاذ كل نفسه وكل مصيره لله ، فلم يَعُد يبصر شيئاً سواه .. ولقد أجاد ابن مسعود وصفه حين قال :
((إنّ معاذاً كان أُمّةً ، قَانِتاً لله حنِيفاً ، ولقد كُنّا نُشبِّهُ معاذاً بإبراهيم عليه السلام)) ...
وكان معاذ دائب الدعوة إلى العلم ، وإلى ذكر الله .. وكان يدعو الناس إلى التماس العلم الصحيح النافع ، ويقول :
((احذروا زَيْغ الحكيم .. واعرفوا الحقّ بالحقّ ، فإن للحقّ نوراً)) ..!!
وكان يرى العبادة قصداً ، وعدلاً ..
قال له يوماً أحد المسلمين : علّمني .
فسأله معاذ : وهل أنت مطيعي إذا علمتك ..؟؟
قال الرجل : إني على طاعتك لحريص ..
فقال له معاذ :
((صُمْ ، وأفطِر .. وصَلِّ ، ونَمْ ـ أي: لا تقم الليل كلّه مصلّياً ـ ...
واكتسب ، ولا تأثم ...
ولا تموتنّ إلأ مسلماً ...
وإياك ودَعوة المظلوم)) .
وكان يرى العلم معرفة ، وعملاً .. فيقول :
((تعلّموا ما شئتم أن تتعلّموا ، فلن ينفعكم الله بالعلم حتى تَعمَلوا)) ...
وكان يرى الإيمان بالله وذكره استحضاراً دائماً لعظمته ، ومراجعة دائمة لسلوك النفس .
يقول الأسود بن هلال :
((كُنّا نمشي مع معاذ ، فقال لنا : اجلسوا بنا نُؤمّن ساعة)) ..
ولعل سبب صمته الكثير كان راجعاً إلى عملية التأمّل والتفكّر التي لا تهدأ ولا تكفّ داخل نفسه .. هذا الذي كان كما قال للرسول صلى الله عليه وسلم : لا يخطو خطوة ، ويظن أنه سيتبعها بأخرى .. وذلك من فرط استغراقه في ذكره ربّه ، واستغراقه في محاسبته نفسَه ..
وحان أجل معاذ .. ودُعِي للقاء الله ..
وفي سكرات الموت تنطلق عن اللاشعور حقيقة كل حيّ ، وتجري على لسانه ـ إن استطاع الحديث ـ كلمات تلخّص أمره وحياته ..
وفي تلك اللحظات قال معاذ كلمات عظيمة تكشف عن مؤمن عظيم .. فقد كان يحدق في السماء ويقول مناجياً ربّه الرحيم :
((اللهم إني كُنتُ أخافك ، لكنني اليوم أرجوك ، اللهم إنك تعلم أنّي لم أكُن أحبُّ الدنيا لجري الأنهار ، ولا لِغرسِ الأشجار ... ولكن لظمأ الهواجر ، ومُكابدة الساعات ، ونَيلِ المزيد من العلم ، والإيمان ، والطاعة)) .
وبَسطَ يمينه ؛ كأنه يصافح الموت ، وراح في غيبوبته يقول :
((مرحباً بالموت .. حبيبٌ جاء على فاقة))
وسافر ((معاذ)) إلى الله .