- هناك بيئات كثيرة لا تسمح للمرأة حتى بالخروج من البيت
- كان لدي خياران :إما الاستسلام لإعاقتي أو السير في طريق الحياة المليئة بالمشاق
- أنظر إلى الأدب دائماً على أن صاحبه إنسان بالدرجة الأولى
حاورتها - ميساء كفا
من قلب العتمة أضاءت لنفسها شمعة لا تذوب ومصباحاً لا ينضب نوره ، الدكتورة ريم هلال امرأة لم تصارع المرض وعدم قدرتها على الرؤية والإفادة من عينيها فقط، إنما فتحت لنفسها طريقا ناصع النجاح، شائك المحاولات، لتنجح أخيرا في أن تكون حكاية المرأة المجتهدة والقوية والناجحة .
عاشت كفيفة لكنها رأت بقلبها المفعم نقاءً ونبضاً ، كل ألوان الحياة وأطيافها البهيجة ونسجت لنا من خيوط الأسى ثوباً ابيض نلبسه جميعاً ونحن نقرأ لها أعمالاً أدبية تفيض رقة وعذوبة وتفوح عمقاً وتصوراً وتفكيراً ، أتقنت منذ طفولتها لعبة الصبر والمثابرة وأجادت فن التحدي وإثبات الوجود فأصبحت مدرّسة في قسم اللغة العربية بجامعة تشرين رغم أنها لا تبصر في الوجود سوى اللون الأسود ، قرأنا لها ثلاث مجموعات شعرية هي : العرّافة كل آفاقي لأغنياتي اسمي والأرض إضافة إلى رواية تمثل سيرتها الذاتية وحملت عنوان "البصر والبصيرة".
إنها الدكتورة الأديبة ريم هلال تحدثنا عن نجاحها وتساءلنا عن بداية قصة الألم والصبر . وفي هذا تحدثنا فتقول :
دربا الحياة إثنان ..لا ثالث لهما :اليأس أو التحدي!
أنا من مواليد اللاذقية السورية، ولدت شبه مكفوفة البصر ، لا أكاد أرى سوى أطياف باهتة ، ولا أمتلك سوى قدرة ضئيلة على التمييز ما بين النور والظلام . ما جعلني أمام خيارين إما الاستسلام لجبروت القدر والانكفاء على الذات في زاوية مظلمة من البيت والمجتمع ، وإما الانطلاق عبر طريق الحياة المديد المليء بالمشاق مستعينة بما يعوضني الله عنه من قدرات وحواس أخرى لها أيضاً أهميتها كما لحاسة البصر من أهمية . ووقع الاختيار مؤكداً على الأمر الثاني
وتتابع : دخلت المدرسة التي عانيت فيها الكثير الكثير نظراً لظروف عديدة ، لكن يوما ًبعد يوم وعاما ًبعد عام ، وبفضل التعويض المنشود الذي حققه الله لي بالفعل ومساعدات المحيطين بين القريبين والبعيدين ، تمكنت من التفوق في دراستي المدرسية ومن ثم الجامعية إذ تخرجت في كلية الآداب قسم اللغة العربية بجامعة تشرين عام 1983 حائزة على الدرجة الأولى على الدفعات جميعها التي مرت على القسم منذ نشأته حتى ذلك الحين . ثم تابعت دراستي العليا بغية متابعة اقتدائي للدكتور" طه حسين "الذي كان يتم تذكيري بعبقريته ما بين حين وحين منذ طفولتي .
وهكذا إلى أن حصلت عام 1999على درجة الدكتوراه ، وكان عنوان رسالتي " حركة النقد العربي الحديث حول الشعر الجاهلي " في حين كان عنوان رسالتي التي أعددتها لنيل رسالة الماجستير" المنهج النقدي عند طه حسين " والآن أعمل مدرسة في كلية الآداب قسم اللغة العربية بجامعة تشرين ، وذلك منذ سبع سنوات . إلى جانب هذا كله تحرك الإبداع في داخلي فصدر لي العديد من المؤلفات منها "العرّافة" الصادرة وزارة الثقافة بدمشق عام 1995 . و"كل آفاقي لأغنياتك" عن وزارة الثقافة بدمشق عام 1997 . و"اسمي والأرض" عن دار المرساة باللاذقية عام 2001 . وكتاب نقدي صدر عن اتحاد الكتاب العرب عام 1999 هو الرسالة التي أعددتها لنيل درجة الدكتوراه و" البصر والبصيرة" الذي يمثل سيرتي الذاتية من لحظة مولدي حتى لحظة حصولي على الدكتوراه.
أذى نفسي و جسدي لم يحبطا من عزيمتي!
وعن الصعوبات الأولية التي صادفتها، وعانت منها كثيراً فكانت حافزاً لدفعها إلى الأمام تجيب: اضطررت إلى دخول مدرسة للمبصرين ، نظراً لعدم وجود مدرسة للمكفوفين حتى الآن في مدينة اللاذقية ، وهذا يعني انتقالي من عالمي الصغير الدافئ الذي كنت محاطة فيه بالحب والاهتمام إلى العالم الخارجي الذي يغطيه صقيع الحياة ، حيث التقيت فيه أقراني الذين عبرّوا عن اندهاشهم من حالتي الغريبة عليهم من خلال إلحاقهم بي ما تنوع من الأذى الجسدي والنفسي ، كما التقيت مدرساتي اللواتي لم ألقَ منهن العون المطلوب لعدم كونهن مؤهلات في الأصل لاستقبال حالة خاصة كحالتي، هذا بالإضافة إلى ما يعني ضعف بصري من ضرورة توظيفي ما بقي في عيني من ذلك القبس الضئيل بغية التمكن من خلاله من تمييز الحروف والكلمات ، وتعلمها القراءة والكتابة .
تماسك عائلتي إزاء إعاقتي زاد من عزمي
و على الرغم من أن أسرتي لم تكن لديها خبرة سابقة في التعامل مع المكفوفين أو المعوقين عامة لعدم كونها قد مرت قبلاً بوضع خاص كوضعي ، أو حتى لم تكن لديها خبرة في المجال التربوي على الإطلاق لكوني الطفلة الأولى لديها ، فإنها سرعان ما تماسكت راضية بقضاء الله وقدره ، وأخذت بيدي مشجعة إياي على اجتياز طريقي ، فاجتمع بذلك العاملان المهمان لخوضي في تجربتي الحياتية ، وتحقيق ذاتي العمل الشخصي الذي تمثل في توقي الشخصي إلى تخطي الصعوبات ، والعمل الخارجي الذي تمثل في مدي بالقوة اللازمة لمساعدتي على تحقيق ما أريد .
تفجر الموهبة
وتتابع د.ريم هلال حديثها وتتطرق إلى ولادة موهبتها : دراستي الجامعية التي تحددت في اللغة العربية وآدابها زادت رغبتي في قراءة الكثير من الكتب بغية تمكني من اختصاصي ، وعدم جعل تفوقي يقتصر على الإلمام بالمقررات الجامعية التي تبقى محدودة الآفاق . وبعد تخرجي لم أقبل بدخولي مرحلة الدراسات العليا ، وتحديداً بمرحلة الماجستير من دون أن أقرأ مئة كتاب على الأقل فيما اختلفت من المجالات الأدبية والثقافية لأكون جديرة بإعداد رسالة جامعية ستتحول فيما بعد إلى واحد إضافي من هذه الكتب ، ثم تابعت قراءة المزيد والمزيد في أثناء إعدادي الرسالتين الماجستير والدكتوراه ، سواء ضمن مجال اختصاصي الذي هو النقد العربي الحديث ، أو ضمن سواه من المجالات ، فتشكلت لدي بذلك خبرة ثقافية ومعرفية سرعان ما اندمجت مع ذخيرة أخرى تمثلت في خبرتي العميقة في الحياة بمختلف جوانبها من خلال تجربتي الخاصة الحارة التي مررت بها. وهكذا ما كدت أعبر مرحلة من دراساتي العليا حتى وجدت أنّ موهبتي الأدبية توقدت في داخلي ، وجعلتني أنطلق من خلال نصوصي التي أخذتُ أبدعها تباعاً بصوتي الخاص بعدما حملت نفسي على المرور قبلاً ، وبصورة متواكبة مع دراستي بغير قليل من سنوات التدرب على الكتابة .
بالكتابة ..أستعيد توازني النفسي.
وعن محرضها الأساسي على الكتابة تقول : أنا أعبر طريق الحياة لابد من أن أصادف ما كثر من ألوانها وما تنوع ، شأني شأن سواي ، وإن كنت أختلف عنهم ربما في انفعالي الخاص بها بناء على كوني أديبة ، وربما في قدرتي المتميزة على التعبير عنها . وبذلك فإن الكتابة تحقق لي على الصعيد الفردي استعادة التوازن النفسي الذي أفقده دائماً بفعل ما أصادف ، إذ يظل انفعالي يلح عليّ ويلح حتى أفرغه على الورق. أما على الصعيد الجمعي ، فإنها تحقق حلمي الكبير بأن أكون معبرة عن الأحاسيس التي تتشكل لدى الآخرين ، والتي إن تمكنوا من الإفضاء بها بكلماتهم الصوتية العابرة فإنني قد أستطيع ذلك بكلماتي المرسومة الثابتة عبر الأيام والسنين. أما بالنسبة إلى ما يحضرني من الكتابة ، فهو كل شيء في هذا الكون ، لأن كل شيء مهما كان صغيراً ودقيقاً لابد من أن يحفز على التأمل ، وتقضي ما ينطوي عليه من أسرار قد أودعها الله فيه . وبذلك فإنه ليس هناك من موضوعات سخيفة في عالم الأدب ما دام من الممكن أن يتم فيه الكشف عن آفاقها التي سرعان ما يتبين اتساعها ولا محدوديتها .
رفضوني لأنني كفيفة
وعن عملية التدريس في الجامعة وصعوبتها تقول بسعادة: ربما سيندهش القراء إذا ما ذكرتُ أنه لا صعوبات تعترضني ضمن عملي المذكور ، نظراً لوصولي في هذه المرحلة إلى حالة من التكيف مع عاهتي إلى درجة جعلت منها صديقتي ، أو بالأحرى إلى تمكني من إيجاد الحلول المنطقية لكل مشكلة كان من المفترض أن تقف في طريقي . علماً أنه كانت هناك محاولات لرفض تعييني معيدة في الجامعة بعد تخرجي من المرحلة الجامعية الأولى بذريعة أنني لن أتمكن من مواكبة زملائي المدرسين في التدريس وضبط الطلاب والتصحيح . وبعد أن تم القبول المتعذر بتعييني ، وحصلت من ثم على درجة الدكتوراه ، أثيرت حولي القضايا ذاتها من قبل أحد زملائي المدرسين وبعض الإداريين لكن إصراري الدائم على دخولي أية تجربة يدخلها المبصرون حملني على عدم الاستجابة لما يريد سواي، فكان لي أن أصبحت مدرسة متميزة ، أمارس أعمالي كلها ومنها التصحيح بصورة متميزة . وفيما يتصل بعلاقتي مع طلابي فقد تصغر اللغة عن أن تصف سموها لكن قد أستطيع أن أختصر القول : إنني لمرتين دخلت قاعة المحاضرات وظننت للوهلة الأولى أن لا أحد فيها لكثرة ما كان يسودها من صمت ، لكن التي ترافقني سرعان ما أخبرتني مع قدر من الدهشة بمدى اكتظاظ القاعة حينئذٍ بطلابي ، فأدركت على الفور أنهم كانوا يلزمون صمتهم ذاك استعداداً منهم للإنصات إليّ لا بعقولهم فقط ، إنما بقلوبهم أيضاً وأحاسيسهم النبيلة . وبالمقابل فإنني استجابة لما ألقاه منهم أراهم قد وجهوني تلقائياً للتعامل معهم ليس بناءً على كوني مدرسة فحسب ، إنما بناءً على ما حركوا لدي من غريزة الأمومة التي فطرني الله عليها .
وحول القاسم المشترك في مجموعاتهاالشعرية من حيث اللغة والمضمون تقول : في مجموعاتي الشعرية تدرجّت عبر دوائر من الأصغر إلى الأكبر ، أي من الذات الفردية إلى الإنسان إلى الطبيعة إلى الحياة بكل ما فيها من خير وشر ، وفرح وحزن، وولادة وزوال ، وانتهاءً بالله الخالق الذي يمثل الدائرة الشاملة للكون الكلي الذي أبدعه بقدرته اللامتناهية . وإذا ما تعذر عليّ في هذه الأعمال المذكورة ، أو في أعماقي الأخرى التي سأبدعها لاحقاً إضافة أسس جديدة ، فإن التجدد يتمثل ما بين نص ونص ضمن العمل الواحد ، أو ما بين عمل وعمل من حيث التقاط المزيد من الجزئيات اللامتناهية التي ينطوي عليها كل أساس . أما من ناحية الأسلوب ، فإذا آخذ عليه الآن وبعد مرور تلك السنوات تقدمه نحو ما هو سلبي في رأيي ، إذ إنه بدأ أولاً في عملي" العرافة "واضحاً بسيطاً قد مكّن حتى البسطاء من قراءة نصوصي ، ثم انتقل بذريعة التطور الفني نحو شيء من التعقيد الذي حال بين النصوص وفهم المتلقين . الأمر الذي جعلني أتجه مؤخراً ، ورداً على خطئي إلى كتابة النثر في عمل سيصدر قريباً . إضافة إلى مجموعاتي الشعرية وكتابي النقدي الذي تناولت فيه الحركة النقدية العربية الحديثة حول الشعر الجاهلي بكل ما تضم من مناهج كان لها الفضل في إضاءة العصر الجاهلي من جوانبه المتنوعة ، وهو يمثل الرسالة التي نلتِ من خلالها درجة الدكتوراه. أما عملي الأخير فهو" البصر والبصيرة " .
شعرنا العربي أهمل من قبل المؤرخين
وتتابع: اهتمامي بالشعر الجاهلي بديهي نظراً للأهمية التي يكتسبها بحد ذاته من حيث كونه يمثل طفولة شعرنا العربي ، لكن ما لاحظته أنه لم يلق العناية الكافية من قبل الدارسين عبر التاريخ بسبب الانشغال بجمعه وتدوينه والشك في صحته وقيام نقدنا القديم على مقاربة النص الأدبي بصورة سطحية مقتصرة على المنهجين الذاتي واللغوي . لكن منذ منتصف القرن السابق يبدو أن النقاد العرب المحدثين تنبأوا إلى أمر هذا الشعر فأقبلوا على دراسته مطبقين عليه المناهج المتنوعة التي استحوذوا عليها من النقد الغربي فكان مني هنا أن ارتأيت استقطاب هذه الدراسات التي كان لها الفضل بأكملها في إضاءة هذا الشعر من جوانبه المتنوعة بناءً على ما تقتضيه المناهج المشار إليها .
وتجيب عن استفسارنا حول قصيدة النثر
أجد في قصيدة النثر من الحرية الفسيحة التي تتيح لي الإبداع ما لم أجد في القصيدة الموزونة المقفاة وقصيدة التفعيلة اللتين تقيدان دائماً الشاعر بقيودهما الخارجية . وإذا ما تم التساؤل عن الجانب الإيقاعي ، كانت الإجابة بأنه ليس ضرورياً أن يتحدد دائماً في الأوزان والقوافي والتفعيلات التي لم تهبط علينا من السماء ولم تنزل في كتاب ، إنما تشكلت بصورة تلقائية عفوية وفقاً لما تمليه الحياة البسيطة المحدودة التي كانت تحيط بالشعر . أما الآن ، فقد تبدل إيقاع حياتنا الحديثة مثلما تبدل عبر كل عصر من العصور السابقة ، وأصبح أكثر تعقيداً وتنوعاً إلى درجة لم يعد يمكنه فيها إلا أن يستبعد تلك القوالب الجاهزة المهيأة سلفاً للشاعر ، ويمنح من الحرية الكافية لكي يقوم الشاعر بنفسه بابتكار إيقاعه الشعري الحيوي المرن الذي قد يتجدد ما بين واحدة وأخرى من تجاربه الشعرية التي يعيشها .
أما عن المهرجان والأمسيات ودورهما في نجاح الأديب تقول :
شاركت في العديد منها ولا سيما في اللاذقية مدينتي منذ دخولي عالم الشعر ، فسرتني مثلما سرني صدور أعمالي، بل ربما أكثر ، نظراً لما حققت لي من تماس مباشر مع الملتقين ، وما خلقت من علاقة تبادلية تحددت فيما أضفت إلى نصوصي وأنا ألقيها من تعبيرات صوتية وجسدية قد أسهمت في المزيد من توضيحها وإيصالها بصورة أكثر سرعة ومباشرة. الأمر الذي يجعلنا ننتهي إلى تلمس الفارق الواضح ما بين الشعر مكتوباً والشعر ملقى بصوت صاحبه ولن يبدو هذا غريباً ما دام الشعر في أصله مروياً ولم يتم تدوينه إلا في مراحل تالية فقط بغرض الحفاظ عليه من الضياع.
أما عن جديدها أدبياً ، فتحدثنا عنه قائلة:
على الرغم من محاولة تقديمي اللغة الواضحة البسيطة في إبداعي الشعري بغية تحقيقي هدفي المتحدد في إيصال نصوصي إلى أكبر عدد من المتلقين فقد لاحظت أن بعضهم لا يستوعبون ما أكتب ، أو ينحرفون عن الرسائل التي ابتغيت إيصالها إلى أخرى جديدة يعتقدونها هم ، لذلك ارتأيت مؤخراً الاتجاه إلى النثر الذي سيحقق لي التماس معهم بصورة أكثر يسراً . وقد انتهيت منذ حين وجيز من إكمال كتابي" سطور "الذي يضم نصوصي النثرية الجديدة والذي أنوي نشره قريباً علماً أنني لم أحرم نصوصي هذه من قدر من الشعرية التي تشكل أصل كتابتي الأدبية كما لم أحرمها من قدر من القصصية التي لاحظت إقبال الناس عليها من خلال كتابي " البصر والبصيرة " هذا بالإضافة إلى ما يمكن أن يكون قد حققت من خلال الكتاب المذكور من الإجابة عن التساؤل الذي طالما كان يراودني قبل دخولي عالم الأدب والذي كنت أقول فيه : ألا يمكن مستقبلا ًخلق النص الأدبي المهجن الذي يجمع بين ما أمكن من الأجناس الأدبية ؟
وينحسر شيئاً فشيئاً هذا الفصل ما بيننا مثلما انحسر الفصل ما بين التراجيديا والكوميديا . نقلاً