إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَن يَجتَهِدُ وَيَبذُلُ مَا في وُسِعِهِ،
وَيَحرِصُ عَلَى اغتِنَامِ الأَوقَاتِ في الصَّالِحَاتِ،
ثم لا يُؤتِي جُهدُهُ الثَّمَرَةَ المَرجُوَّةَ مِنهُ،
وَلا يَصِلُ بِهِ إِلى هَدَفِهِ الَّذِي أَرَادَهُ،
وَحَاشَا للهِ أَن يَرُدَّ عَبدًا أَقبَلَ عَلَيهِ أَو يُبعِدَ مُتَقَرِّبًا إِلَيهِ،
كَيفَ وَهُوَ القَائِلُ سُبحَانَهُ في كِتَابِهِ العَزِيزِ: فَاذكُرُوني أَذكُرْكُم،
لَكِنَّ الوَاقِعَ الحَيَّ وَالحَالَ المُشَاهَدَةَ تَدَلُّ عَلَى نَوعٍ مِنَ الخَلَلِ،
إِذ تَجِدُ ذَلِكَ العَامِلَ المُتَزَوِّدَ مِنَ الطَّاعَاتِ في فَاضِلِ الأَوقَاتِ
يَقَعُ بَعدَ ذَلِكَ في كَثِيرٍ مِنَ المَعَاصِي وَالمُخَالَفَاتِ،
وَلا يَتَوَرَّعُ عَنِ الوُلُوغِ في عَدَدٍ مِنَ الرَّزَايَا وَالمُوبِقَاتِ،
وَتَمضِي عَلَيهِ السَّنَوَاتُ تِلوَ السَّنَوَاتِ
وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الصَّغَائِرِ مُتَهَاوِنٌ بِبَعضِ الكَبَائِرِ،
وَكَفَى بِكُلِّ هَذَا نَقصًا وخُذلانًا وَعَدَمَ تَوفِيقٍ.
وَلَو أَخَذنَا الصَّلاةَ مَثَلاً وَتَأَمَّلنَا قَولَ اللهِ تَعَالى فِيهَا:
إِنَّ الصَّلاةَ تَنهَى عَنِ الفَحشَاءِ وَالمُنكَرِ وَالبَغيِ
ثُمَّ نَظَرنَا إِلى ذَلِكَ المُصَلِّي بَعدَ خُرُوجِهِ مِن مَسجِدِهِ،
لَوَجَدنَاهُ لا يَنتَهِي عَن مُنكَرٍ وَلا يَسلَمُ مِنِ اقتِرَافِ فَحشَاءَ،
وَلأَلفَينَاهُ لا يَردَعُ نَفسَهُ عَن بَغيٍ وَلا ظُلمٍ وَلا اعتِدَاءٍ،
نَجِدُ مِنهُ أَكلَ أَموَالِ النَّاسِ بِالبَاطِلِ،
وَنَرَى مِن أَخلاقِهِ هَضمَهُم وَبَخسَ حُقُوقِهِم،
وَنَلمَسُ مِنهُ الكَذِبَ وَكِتمَانَ العَيبِ في بَيعِهِ وَشِرَائِهِ،
وَخِيَانَةَ أَمَانَتِهِ وَالفُجُورَ في مُخَاصَمَتِهِ،
وَالغِشَّ وَالتَّدلِيسَ وَالخِدَاعَ في مُعَامَلاتِهِ،
فَضلاً عَن أَكلِ الرِّبَا وَالتَّهَاوُنِ بِالمُشتَبهَاتِ وَتَنَاوُلِ المُحَرَّمَاتِ،
وَالنَّظَرِ إِلى مَا لا يَحِلُّ وَاستِمَاعِ مَا يَحرَمُ،
إِلى غَيرِ ذَلِكَ مِن أَنوَاعِ المَعَاصِي مِنَ غِيبَةٍ وَنَمِيمَةٍ وَسُخرِيَةٍ وَاستِهزَاءٍ، وَقَطِيعَةِ أَرحَامٍ وَهَجرِ إِخوَانٍ،
فَأَينَ أَثَرُ الصَّلاةِ؟!وَمَا السِّرُّ في هَذَا التَّنَاقُضِ؟!إِنَّــهُ القَـلبُ،نَعَم أَيُّهَا المُسلِمُونَ، إِنَّهُ القَلبُ، المُحَرِّكُ الحُقِيقِيُّ لِلجَوَارِحِ،
وَالمُوَلِّدُ الفِعلِيُّ لِكُلِّ التَّصَرُّفَاتِ،
الَّذِي إِذَا صَلَحَ صَلَحَتِ الأَعمَالُ كُلُّهَا وَاستَقَامَتِ الجَوَارِحُ،
وَإِذَا اختَلَّ وَفَسَدَ فَمَا بَعدَهُ تَبَعٌ لَهُ في فَسَادِهِ،
قَالَ: ((أَلا وَإِنَّ في الجَسَدِ مُضغَةً، إِذَا صَلَحَت صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَت فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِيَ القَلبُ)).وَإِنَّ صَلاحَ القُلُوبِ وَتَزكِيَةَ النُّفُوسِ مَطلَبٌ جَلِيلٌ وَوَاجِبٌ كَبِيرٌ،
غَفَلَ عَنهُ كَثِيرٌ مِنَ المُسلِمِينَ حَتى بَعضُ الصَّالِحِينَ،
مَعَ أَنَّهُ المَحَكُّ وَعَلَيهِ مَدَارُ العَمَلِ صِحَّةً وَفَسَادًا،
وَإِنَّهُ لَجَهلٌ ذَرِيعٌ وَخَطَأٌ شَنِيعٌ وَسُوءُ فَهمٍ وَقِلَّةُ فِقهٍ أَن يُهمِلَ العَبدُ قَلبَهُ وَهُوَ مَوضِعُ نَظَرِ رَبِّهِ،ثُمَّ يُركِّزَ جُهدَهُ عَلَى أَعمَالِ الجَوَارِحِ الظَّاهِرَةِ الَّتي لا يَنظُرُ الرَّبُّ تَعَالى إِلَيهَا وَالقَلبُ خَاوٍ فَاسِدٌ خَرِبٌ،قَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((إِنَّ اللهَ لا يَنظُرُ إِلى صُوَرِكُم وَلا أَموَالِكُم، وَلَكِنْ يَنظُرُ إِلى قُلُوبِكُم وَأَعمَالِكُم))وَإِنَّ مِن أَشَدِّ أَخطَارِ هَذِهِ الكَبَائِرِ البَاطِنِيَّةِ الخَفِيَّةِ أَنَّ العَبدَ إِذَا لم يَتُبْ مِنهَا وَيَتَخَلَّصْ مِن دَوَاعِيهَا وَلَوَازِمِهَا فَقَد يَحبَطُ عَمَلُهُ وَلا يَنتَفِعُ بِطَاعَاتِهِ،قَالَ سُبحَانَهُ: وَلَقَد أُوحِيَ إِلَيكَ وَإِلى الَّذِينَ مِن قَبلِكَ لَئِن أَشرَكتَ لَيَحبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ،وَقَالَ تَعَالى: فَمَن كَانَ يَرجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًاوإِنَّهُ مَتَى تَنَقَّى القَلبُ مِن مِثلِ هَذِهِ الخَبَائِثِ وَالرَّذَائِلِ سَكَنَت فِيهِ الرَّحمَةُ في مَكَانِ البُغضِ،
فَعِندَ ذَلِكَ تَزكُو الأَعمَالُ وَتَصعَدُ إلى اللهِ تَعَالى وَيَطهُرُ القَلبُ وَيَسلَمُ،
وَيَبقَى مَحَلاًّ لِنَظَرِ الحَقِّ بِمَشِيئَةِ اللهِ وَمَعُونَتِهِ،
وَالمُوَفَّقُ مَن وَفَّقَهُ اللهُ وَأَعَانَهُ،
وَمِن ثَمَّ أَيُّهَا المُسلِمُونَ فَمَا أَحرَانَا أَن نَبحَثَ في قُلُوبِنَا وَنُفَتِّشَ في نُفُوسِنَا، لِنُخَلِّصَهَا مِن كُلِّ مَرَضٍ وَآفَةٍ، وَنُعَالِجَهَا مِن كُلِّ دَاءٍ وَعِلَّةٍ، وَنُقَوِّمَ كُلَّ اعوِجَاجٍ فِيهَا وَنُصلِحَ كُلَّ خَلَلٍ، وَنُجَرِّدَهَا مِن كُلِّ شَائِبَةٍ وَغَرَضٍ، لِنَفُوزَ وَنَسلَمَ مِنَ الخِزيِ يَومَ يُبعَثُونَ، يَومَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَن أَتَى اللهَ بِقَلبٍ سَلِيمٍ.وكما يقولون دائما
من نفذ أوامر الله خارج الصلاة يرزق الخشوع والبكاء إذا وقف بين يدي الله
ولن تنكسر بين يدي الله حتى تنكسر في نفسك أولا
وفقنا الله وإياكم لكل خير