الأسباب البيئية لحدوث صعوبات التعلم عند الأطفال
عبد الرحمن جرار
تُوصف صعوبات التعلم في الأدب التربوي الخاص بأنها « إعاقة خفيَّةمحيِّرة «. فالأطفالالذين يعانون من هذه الصعوبات يمتلكون قدرات تخفي جوانب الضعف في أدائهم. فهم قديسردون قصصاً رائعة على الرغم من أنهم لا يستطيعون الكتابة. وهم قد ينجحون في تأدية مهارات معقدة جداً رغم أنهم قد يخفقون فياتباع التعليمات البسيطة. وهم يبدون عاديين تماماً وأذكياء، وليس في مظهرهم مايوحي بأنهم يختلفون عن الأطفال الآخرين.
وتُعَرف صعوبات التعلم على أنها مجموعة متغايرة من الاضطرابات تظهرعلى شكل صعوبات ذات دلالة في اكتساب واستخدام مهارات الاستماع، أو الكلام، أوالقراءة أو الكتابة، أو التفكير أو الذاكرة أو القدرات الرياضية. وتتصف هذهالاضطرابات بكونها اضطرابات داخلية في الفرد ويُفترض أنها عائدة إلى قصور وظيفي فيالجهاز العصبي المركزي، ويمكن أن تحدث عبر فترة الحياة، كما يمكن أن يواكبهامشكلات في سلوك التنظيم الذاتي، والإدراك الاجتماعي دون أن تشكل هذه الأمور بحدذاتها صعوبة تعلمية . ومع أن صعوبات التعلم قد تحدث مصاحبة لحالات أخرى من الإعاقة(كالتلف الحسي والتخلف العقلي، والاضطراب الانفعالي الحاد).أو مصاحبة لمؤثراتخارجية (كالفروق الثقافية والتعليم غير الكافي أو غير المناسب) إلا أنها ليستناتجة عن هذه الحالات أو المؤثرات.
في الوقت الذي يتفق فيه الاختصاصيون على أن مشكلات معالجة المعلوماتذات الأصل العصبي هي السبب في الصعوبات التعلمية، إلا أنهم في الوقت نفسه يحذرونمن تجاهل عوامل البيئة والمواقف التعليمية، فهناك الكثير من العوامل البيئية التيقد تتسبب في حدوث صعوبات التعلم لدى الأطفال، أو أنها قد تفاقم من مواطن الضعفالموجودة أصلاً، محدثة بذلك فروقا في واقع هذه الصعوبات، إذ قد تحيل الصعوبةالتعلمية البسيطة إلى إعاقة تعلمية حقيقية من جهة، أو أنها قد تعمل على الحد منآثار تلك الصعوبات والتخفيف منها قدر الإمكان من جهة أخرى.
ولا شك بأن فهمنا لمختلف هذه العوامل سوف يسهم في رفع قدرتنا علىتقييم وتحديد وتنظيم العوامل التي قد تؤدي إلى حدوث صعوبات التعلم المختلفة، فضلاًعن هذا فإن تعاظم فهمنا لجوانب القوة والضعف لدى الطلبة ومناهجهم الدراسيةوبيئاتهم المدرسية والأسرية ييسر تدخلنا العلاجي ويجعله أكثر نجاحاً. ومن أكثرالعوامل شيوعاً التي تطرق إليها البحث العلمي وتدخل في نطاق العوامل البيئية:التغذية، والسميات البيئية، والإشعاعات، والبيئة الدراسية، والبيئة الأسريةوالاجتماعية، والإصابات الجسدية.وفيما يلي عرض لهذه العوامل:
التغذية
لقد وجد أن نقص التغذية يؤثر سلباً في نضج الدماغ وبخاصة فيما يتعلقبإنتاج الخلايا العصبية فيه مما يقلل من وزنه. ونقص التغذية له نتائج خطيرة جداًفي الأشهر الستة الأولى من حياة الطفل.
وقد أشير في كثير من الأبحاث والدراسات التي تتعلق بالعوامل البيئيةوالتغذية إلى أن الأطفال الذين عانوا من سوء تغذية شديدة لفترة طويلة نسبياً منحياتهم في سن مبكرة يعانون من إعاقات في تعلم بعض المهارات الأكاديمية الأساسية،مما يضعف من قدرتهم على الإفادة من الخبرات المعرفية المتوافرة لغيرهم.
السُّميات البيئية
تناول البحث الطبي باهتمام الأخطار البيئية التي تنتج عن التعرض لبعضالسموم، حيث يَعتقد البعض أن التعرض لكميات صغيرة من الرصاص يمكن أن ينتج أنماطامن السلوك تتصل بصعوبات التعلم، كمشكلات الكلام ونقص الانتباه. ويقترح الاختصاصيونفي هذا المجال، بأن بعض الأشخاص قد يتعرضون لكمية من الرصاص لا تكون عالية بمايكفي لإحداث التخلف العقلي ولكنها في الوقت نفسه تكفي لإحداث صعوبات التعلم.
الإشعاعات
اهتم الباحثون بدراسة العلاقة بين الإشعاعات الصادرة عن ضوءالفلوريسانت وأجهزة التلفاز من جهة وصعوبات التعلم من جهة أخرى . وقد أشارتالنتائج الأولية إلى ان هذه الإشعاعات تسبب ما أطلق عليه متلازمة الطفل المتعب Tired Child Syndrome ، حيث أن الأطفال الذين يتعرضون لها بشكل مفرطيفقدون نشاطهم ويصعب عليهم الانتباه والتركيز.
البيئة الدراسية
يقترح أنصار المدرسة البيئية، أن الصعوبات التعلمية قد تنتج بسبب خللما في البيئة الدراسية قد ينجم عن عدم التوافق بين المواقف التعليمية وخصــائصالمتعلم، وكذلك من خلال مستوى التوقعات التي يصرح بها المدرسون لطلابهم، ومقدرةالمدرس على التعامل مع الحاجات الخاصة للطلاب داخل الصف، وحساسية المدرس للأنماطالسلوكية واستراتيجيات التعلم المختلفة التي يمارسها الطلاب ضمن بيئة المدرسة.
وتفيد الملاحظات بأن بعض الأطفال ذوي الصعوبات التعلمية، لا يتخذونموقفاً طيباً نحو المدرسة، ولا تتوافر لديهم رغبة كبيرة للتعلم والإنجاز فيالمجالات الضرورية. وقد تكون مشكلتهم دالة على الأنظمة القيمية لآبائهم، وعلىنظرتهم التي تضع المهن الأكاديمية في مكانة منخفضة، وتبرز هذه المشكلات على نحوجلي عند الطلبة ذوي الصعوبات التعلمية. فالنظام القيمي في المجتمع يقرر طريقةواحدة لتقبل الأشياء، في حين يرفض كل الطرق المتاحة الأخرى وذلك بوصفها شاذة عنالطريقة الصحيحة. ويعتبر ذوو صعوبات التعلم من أهم الفئات التي لا تنطبق عليهامعايير المجتمع عن النجاح الأكاديمي، فمن الممكن أن يكتسب الكثير من الأفراد ذويصعوبات التعلم المعرفة على نحو أفضل، لو لم تكن القراءة هي الوسيلة المطلوبةللحصول على تلك المعرفة، بل انها الوسيلة التي يعتبرها المجتمع الأساس في اكتسابالمعرفة، حتى إن أي فرد لا يستطيع التكيف مع هذا النظام يعد معاقا أو أقل قيمة.
البيئة الأسرية والاجتماعية
على الرغم من أن صعوبات التعلم هي بالدرجة الأولى صعوبات أكاديمية،إلا أن العديد من المربين يلاحظون أن صعوبات التعلم ظاهرة متعددة الأبعاد. وذاتآثار ومشكلات تتجاوز النواحي الأكاديمية إلى نواحي أخرى اجتماعية وانفعالية تترك بصماتهاعلى مجمل شخصية الطفل من جوانبها كافة. ولهذا فالمربون والاختصاصيون والمشتغلونبصعوبات التعلم يعتقدون بأنه يتعين ألا يقتصر تناول هذه الصعوبات على النواحيالأكاديمية بمعزل عن المؤثرات الأسرية والبيئية. وما يدعم هذا التوجه، ما جاء بهتعريف اللجنـة الاستشارية لصعوبات التعلم الذي يرى في قصور المهارت الاجتماعيةنمطا من أنماط الصعوبات النوعية. فأحداث الحياة المفاجئة على سبيل المثال تتركأثرا واضحا في الحالة الانفعالية للطفل، ومن هذه الأحداث فقدان أحد الوالدين أوكليهما، أو انتقال الطالب من بيئة إلى أخرى. وتفيد الملاحظات بأن عددا من الطلبةذوي صعوبات التعلم يظهرون اكتئابا وشعورا بالإحباط أكثر من غيرهم مما يؤدي إلى تدنفي استعداد هذه الفئة من الطلاب لبذل طاقاتهم الكامنة في المواقف التعليميةالمختلفة. كما يلاحظ على الكثير من الأطفال ذوي الصعوبات التعلمية أنهم قلقون، لايشعرون بالأمان، مندفعون وعنيدون، وقد تكون مثل هذه السلوكيات ناشئة عن نقص الشعوربالأمن والانسجام والحب والدفء والقبول في البيت والمدرسة. وقد يتأثر الأساسالنفسي بل وحتى الفيزيولوجي للتعلم إذا تعرض الأطفال لفترة طويلة من الحرمانالعاطفي أو كان الحرمان في الفترات الحرجة للنمو العاطفي. وبهذا فإن هؤلاء الأطفاليصبحون مشاركين غير مرغوبين في نظام عائلي غير صحي فيتبنون سلوكيـات غيـر ملائمـة،يرونها تُتَخذ نموذجاً وتُعَزز من الأفراد الآخرين في الأسرة.
الإصابات الجسدية
إن عيش الطفل في بيئة لا توفر له الأمان الجسدي له تأثير كبير في حياةالطفل الأكاديمية، فتقارير السقوط من الأماكن العالية، والأذى الذي قد يتعرض لهالدماغ، ورضات الرأس، والعواقب الأخرى لعدم الاهتمام برعاية الطفل، والحوادث،والأحداث المؤسفة في الملاعب وغيرها، كثيراً ما تظهر في السجلات السريرية للأطفالالذين تم الكشف عنهم بأنهم يعانون من صعوبات تعلمية. كما يمكن أن ترد بعض صعوباتالتعلم إلى الأذى الجسدي الناجم عن إساءة معاملة الطفل، وخاصة أن الأطفال الذينيبدون أعراضاً سلوكية لصعوبات التعلم مرشحون محتملون لمثل هذه المعاملة السيئة.ومن المعلوم أن هذه المعاملة السيئة قد تصدر عن شعور الوالدين بالخيبة لقاءالمبالغة في توقعاتهم للطفل وما يعلقون عليهم من آمال مستقبلية.
عبد الرحمن جرار
مشرف التربية الخاصة - الكويت
نقلاً عن جريدة الرأي الأردنية