بقلم زينب بكر
طوال
عدة عقود من القرن الماضي وقعت شرائح واسعة من الشباب العربي والمسلم
فريسة لغول المخدرات الذي قضى على أعداد كبيرة منهم، ودفع بقيتهم الباقية
إلى الانقطاع عن المجتمع وحرمانه من سواعدهم.
وإذا كانت وسائل الإعلام
قد حاولت طوال تلك الفترة التصدي لهذه الظاهرة الخطيرة إلا أن الدراسات
الاجتماعية كشفت خللا خطيرا في معالجة هذه الوسائل - وعلى رأسها التلفزيون-
لمشكلة الإدمان.. بل إن بعض هذه الدراسات كشفت أن التلفزيونات –عربية
وأجنبية- لعبت دورا بارزا في زيادة أعداد المدمنين، وتعليمهم مهارات جديدة
في تعاطي المخدرات، وفنون الاختفاء عن أعين السلطات والمجتمع.
والواقع
أن سر الأزمة التي وقعت فيها القنوات التلفزيونية يعود إلى الازدواجية التي
تعاني منها سياسات البث فيها، والنظرة الجزئية التي تتعامل بها مع مشكلة
المخدرات التي تقطعها في كثير من الأحيان عن جذورها النفسية والاجتماعية
والاقتصادية.
وتقوم هذه الازدواجية على الفصل الحاد بين ما تقدمه
البرامج التلفزيونية المخصصة لمواجهة الإدمان، وبين البرامج ومواد البث
الأخرى الموجهة إلى الجمهور العام؛ ففيما تقوم البرامج المخصصة لمواجهة
الإدمان على شرح سلبيات تعاطي المخدرات على كافة الأصعدة وتقديم صورة سلبية
عنها، فإن بقية البرامج –من حيث لا تدري- تقوم بدور عكسي إما بتقديم صورة
مغرية للمدمن، أو بتعزيز الأسباب الدافعة إلى الإدمان!
أما أهم ما أغفله
التلفزيون فهو ما أثبتته الدراسات الإحصائية من أن مدمن المخدرات أكثر
تعرضا للبرامج السلبية في التلفزيون (بنسبة 83%) من البرامج المخصصة
لمكافحة إدمان المخدرات (نسبتها 2% فقط) في حين تحتل البرامج المحايدة
النسبة الباقية.
***
ولمزيد من الإيضاح ينبغي أن نتوقف عند الأسباب الدافعة لإدمان المخدرات، وهي كالتالي:-
1.
الهروب من الواقع: بما يحمله هذا الواقع من مشاكل قاسية كالبطالة،
والطبقية والفروق الواسعة في مستويات الدخل، والفشل العلمي والتعليمي
والاجتماعي، والفساد المالي والإداري، ويحاول المدمن عن طريق معاقرة
المخدرات بأنواعها الفرار إلى عالم الأحلام واللذة الكاذبة بعيدا عن واقعه
المؤلم، وهذا السبب هو الذي يفسر وجود شريحة كبيرة من المدمنين من بين
الطبقات المهمشة أو الأكثر فقرا.
2. التفاخر والمباهاة: وهي البوابة
الثانية الواسعة التي دخل منها كثير من الأثرياء والفنانين إلى عالم
الإدمان، حيث يظهر الشخص المدمن هنا لأغلى أنواع المخدرات شخصا غير مكترث
بالمبالغ الضخمة التي ينفقها على تعاطي عقار مثل الهيرويين.
3. التقليد
والمحاكاة: وهي الرغبة التي تدفع كثيرا من الشباب وحديثي السن على وجه
الخصوص إلى تقليد أقرانهم كي لا يكونوا أقل منهم، والدافع هنا هو إما
الحفاظ على مكانته وسط جماعة الأصدقاء، أو الحرص على إثبات الرجولة
–بالنسبة للفتيان- وإثبات النضج -بالنسبة للفتيات-.
4. الدافع الجنسي:
حيث يسود الاعتقاد أن المخدرات تنشط الناحية الجنسية وتزيد قدرة الاتصال
العملية أثناء الجماع، وهو وتر تركز عليه دعايات تجار المخدرات ويتم
تناقلها بين المدمنين، وهي امتداد لميراث قديم يقوم على تعاطي الخمور في
ليلة الزفاف حتى من قبل بعض من لا يشربونها رغبة في تنشيط القدرات الجنسية،
وكسر حاجز الخجل.
5. الخوف من التعب والإرهاق: وذلك باستغلال طبيعة
الهيرويين والمخدرات الأخرى كمسكن قوي للألم، ولنا أن نعلم أن أدمان بعض
أنواع المخدرات، وخاصة الدوائية، يبدأ أثناء تجربة علاجية، أو نتيجة وصفة
غير مكتوبة من مريض لآخر يرشح له فيها أنواعا من المسكنات القوية التي تؤدي
إلى الإدمان.
6. وأخيرا، المرضى النفسيون، حيث ينتشر الإدمان على وجه الخصوص بين المرضى بالاكتئاب أو سيئي التوافق أو الشواذ جنسيا.
***
ولنرجع
الآن إلى ما تقدمه شريحة البرامج العامة في التلفزيون والتي تضم الأعمال
الدرامية والفنية بأنواعها (مسلسلات، أفلام، مسرحيات، سواء العربية منها أو
الأجنبية) وذلك إضافة إلى البرامج الحوارية مع النجوم، والبرامج الموجهة
إلى الشباب، والتي أصبحت أغاني الفيديو كليب مسيطرة على معظمهما.
في هذه
البرامج تلاحظ تكريسا واضحا للمشكلات الاجتماعية وعلى رأسها انقسام
المجتمع إلى طبقات يفصل بينها أسوار عالية، وتكرس الإحساس بالفشل والتهميش
لدى الشرائح الأكثر فقرا في المجتمع، فبرامج الشباب لا يشارك بالظهور فيها
أمام الكاميرا إلا شباب الطبقة العليا، ويتحدثون عن مشاكلهم الخاصة التي لا
تعبر بالتأكيد عن مشاكل الطبقات الأخرى، ويلعب الشباب من الطبقات الأفقر
دور المتفرج فقط على هذه البرامج فيزداد شعوره بالقهر الاجتماعي والهوة
المادية التي تفصله عن تلك الشرائح التي يظهرها التلفزيون، الأمر الذي يزيد
من نقمته على المجتمع ورغبته في الانعزال عنه.
ويزيد من التأثير السلبي
لبرامج الشباب في التلفزيونات العربية أنها لا تقدم النماذج الجادة
الصالحة لأن تكون قدوة، ولكنها تقدم النماذج الأكثر تأثرا بالسياق
الاجتماعي الغربي، وهو السياق الذي أفرز كثيرا من حركات التمرد على الواقع
بالانعزال عنه والبحث عن عالم جديد خيالي باستخدام أنواع المخدرات، وعلى
رأس هذه الحركات الهيبيز في الستينيات.
***
أما الأعمال الدرامية من مسلسلات وأفلام ومسرحيات فقد شجعت على الإدمان بأكثر من وسيلة يمكننا تعديد بعضها:
*
إنها قدمت الإدمان في كثير من الأعمال كوسيلة للتغلب على المشكلات، فالبطل
حين تواجهه مشكلة لا يقدر على التعامل معها يلجأ إلى (بار الخمر) أو (غرزة
المخدرات) بدلا من اللجوء إلى الله، أو استشارة أصحاب العقل.
* أنها
تفرط في تصوير الحالة المزاجية السعيدة للمدمن بعد تعاطيه، بصورة تجعل
كثيرا من الذين يتعرضون لضغوط يشعرون بأن هذا المخدر سواء كان من مادة
طبيعية كالبانجو أو الحشيش أو الأفيون، أو من مادة مصنعة كالهيرويين
والكوكايين، أو من مادة كيماوية كالماكستون فورت وغيره هو الوسيلة الوحيدة
للتغلب على آلامه و معاناته للانطلاق إلى عالم السعادة واللذة، وعلى سبيل
المثال فإن تعاطي المخدرات يرتبط في الأفلام والمسلسلات بجلسات الأنس
والمرح الغائبة عن الواقع والتي يطمح أي مشاهد -حتى لو لم يكن مدمنا- إلى
أن يكون فيها لبعض الوقت.
* اقتران تعاطي المخدرات بممارسة الجنس
والإباحية في كثير من الأعمال الدرامية، وهو الأمر الذي يحفز كثيرا من
الشباب إلى دخول عالمها لأنه دخول إلى عالم اللذة المحرمة بكل أنواعها.
*
كثير من الأفلام والمسلسلات تقدم المدمن في صورة بطل يتعاطف معه الجمهور
إلى درجة التوحد، وتقدمه في صورة قريبة من السوبر مان الأمريكي، ولا تتعرض
بالنقد الشديد لشخصيته المرتبكة نفسيا واجتماعيا، وقد يدفع هذا التوحد
بالجمهور إلى سلوك مسلكه.
* ورغم أن كثيرا من الأعمال التي تعرضت لعالم
المخدرات عاقبت في نهاية الأمر مدمن المخدرات، إلا أن هذه العقوبة بدت
باهتة أمام ساعات المتعة والنشوة التي قدمتها للجمهور أثناء عملية التعاطي،
وهو ما يجعل هذه العقوبة سريعة النسيان لدى المتلقي الذي يلتفت فقط إلى
اللذة التي عاشها المدمن، وقليلة هي الأعمال التي ركزت بعمق على تصوير
الآثار الاجتماعية والنفسية والعملية الخطيرة التي يتعرض لها المدمن وقدمت
حجم خسارة يفوق دقائق اللذة التي يشعر بها.
* والأشد خطورة مما سبق أن
بعض الأعمال الدرامية قدمت للشباب وسائل مبتكرة للتغلب على رقابة الأهل
ورقابة المجتمع والسلطات للحصول على جرعات المخدر وتعاطيه، وكثير من
المدمنين ذكروا أنهم تعلموا فنون الهروب والاختفاء من أعمال درامية.
*
أما أغاني الفيديو كليب التي انتشرت خلال العقد الأخير، فتحتاج إلى مراجعة
كبيرة لأنها تجري في أغلب الأحوال وراء الغرابة حتى لو تعارضت مع القيم،
فبعضها يصور واقع الزنوج في أمريكا مثلا بما يحويه من عنف وجريمة وخمور
ومخدرات على الرغم من أن ما نشاهده لا علاقة له بكلمات الأغنية، وبعضها
يصور طقوس عبدة الشيطان وملابسهم، وبعضها يصور جرائم السرقة، وكل ذلك وسط
أجواء تخلو من الإدانة ولا تخلو من الطرافة بما يجعلها مصدرا أساسيا لتصدير
القيم المنحرفة للشباب مستغلا افتتانه بها.
***
وتبقى الملحوظة
الأخيرة على التلفزيون أن برامجه الجادة يتم إنتاجها بشكل رديء أو فقير،
بما يجعلها بعيدة عن ذوق الشباب، كما أن طبيعتها الوعظية والمباشرة تتنافى
تماما مع طبيعة الشباب الذي يريد أن يشعر بذاته، ولا يروق له أن يسمع وعظا
مباشرا، بما يجعل من هذه البرامج مادة لا يشاهدها إلا المتخصصون وحدهم، أما
الشباب وهم جمهورها الأصيل ففي وادٍ آخر، الأمر الذي ينطبق بصورة خاصة على
البرامج الدينية والصحية والعلمية والبرامج الاجتماعية
منقول