الرياض – وائل الظواهري
لا
شك أن الأدب بجميع أنواعه يعتبر من تراث الأمم وحضاراتها، ومما تعتز وتفخر
به، فهو يحفظ مآثرها ويظهر أمجادها، وينشر لغتها وإبداعاتها، ويقرر
عقائدها وأفكارها وتوجهاتها، ثم هو يصل إلى النفوس بجماله ويؤثر فيها
بحسنه.
ولذا نجد القرآن الكريم نزل في غاية الإبداع والبلاغة والتأثير،
فلم يسمعه أهل اللغة والبلاغة إلا وتأثروا به، وعجبوا لبلاغته وفصاحته،
ووقفوا مشدوهين لشدة أثره وعظيم فعله، حتى كان سبب إسلام الكثيرين، وعلى
نفس المنوال نجد النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه بلاغة وفصاحة وبيانا،
وهو القائل "أوتيت جوامع الكلم" و"إن من البيان لسحرا".
من أجل ذلك كله
نجد القرآن يدعو المسلمين إلى ضرورة استخدام البلاغة والفصاحة وعلى رأسها
القرآن الكريم في الجدال مع الآخرين ونصحهم وتوجيههم، وعد ذلك من الجهاد،
كما قال سبحانه: "وجاهدهم به جهادا كبيرا"، يعني القرآن الكريم، وقال عز
وجل: "وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا"، والآيات كثيرة في هذا المعنى،
والنبي صلى الله عليه وسلم يدعو الأدباء من أصحابه إلى إظهار ما عندهم من
ملكة للرد على كفار قريش، مبينا لهم أن جبريل عليه السلام معهم، ويبين في
أكثر من موضع قيمة البلاغة وأثرها، وثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة.
هل الأدب نوع من الجهاد؟!
ومن
المعلوم أن الجهاد ضروب متنوعة، والأدب بأنواعه منها، فلئن كان هناك جهاد
بالنفس والمال حينما يبذلهما صاحبهما في سبيل الله، فإن هناك جهادا
بالكلمة يقف جنبا إلى جنب مع الجهاد بالنفس والمال، بل إن الجهاد بالكلمة
أندر، والحاجة إليه بسبب ندرته أشد، إذ لا يملكه إلا القلة القليلة من
الناس، قوامه الموهبة، والموهوبون قليلون.
كل هذا يدعونا إلى ضرورة معرفة مدى أثر الأدب في الدعوة إلى الله، وكيف يمكن توظيفه في هذا الشأن؟
الأدب رسالة في الحياة
قبل
الدخول في الموضوع، يؤكد الدكتور إبراهيم محمد قاسم "أستاذ الأدب والبلاغة
في الرئاسة العامة لتعليم البنات) على أن الأدب له دوره ورسالته في
الحياة، وبدون ذلك يكون عديم القيمة، بل إن الأدب عندما يفقد دوره الأساسي
في الحياة يتحول إلى شيء قبيح مذموم، والقرآن الكريم يقرر هذه الحقيقة،
فنجده يصنف الشعراء – وهم صنف من الأدباء – بين مذمومين وممدوحين بناء على
الغاية من الأدب الذي ينشرونه، يقول الله تعالى "والشعراء يتبعهم الغاوون *
ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون* إلا الذين آمنوا
وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا"
ويبين
الدكتور عبد الله بن إبراهيم اللحيدان (أستاذ الدعوة المشارك بجامعة
الإمام محمد بن سعود الإسلامية) أن العالم الآن بحاجة ماسة إلى الدعوة
الإسلامية أكثر من ذي قبل، وما دمنا -نحن المسلمين- نعتقد أن الإسلام رسالة
عالمية، فلا بد أن نؤدي أمانة تبليغ دعوة الإسلام بكل الوسائل، وننهج كل
الطرق المشروعة التي تحقق مبدأ البلاغ المؤثر، في ظل قوله تعالى: "ادع إلى
سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن"، وبناء على ذلك
فإن طريقة الخطاب الدعوي والوسائل المتخذة فيه لها أثر في نجاح الدعوة
الإسلامية وانتشارها، والعناية باللغة واختيارها منهج لا بد من العناية به.
الأدب سلاح هام من أسلحة الدعوة
ويعتبر
الدكتور إبراهيم قاسم الأدب سلاحا هاما لا بد منه، يوضح ذلك بقوله: "ما من
شك في أن الأدب من أهم أسلحة الدعوة الإسلامية، يسهم في نشرها، ويتجلى فيه
أثر الإسلام عقيدة وفكرا، ويحمل المسلمين على التضحية والجهاد لإعلاء كلمة
الله عز وجل، خاصة الشعر لكون أثره في النفوس أبلغ وحفظه أسهل وإقبال
البشر عليه أكثر وأعظم، ولذلك كان اهتمام القرآن بهذه القضية دليلا على مدى
أهميتها، فالأدب عامة والشعر بخاصة يمكن أن يسهم بنصيب وافر في إبراز صوت
الإسلام وفي الدفاع عن الدعوة الإسلامية، يحمل فكرها، ويبشر بعقيدتها،
وينبه على ما قد يحيق بها من أخطار، فيكون بذلك –بحق- سلاحا من أسلحة
الدعوة الإسلامية، ويكون منبرا أو جهازا إعلاميا يذكي روح الإسلام، وينطق
بقيمه ومثله العليا، ويتحدث عن مبادئه وتعاليمه الرفيعة. وحسبنا أن نستمع
إلى ما يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت رضي الله عنه:
"اهجهم (يقصد المشركين) وروح القدس معك، فوالله لهجاؤك أشد عليهم من وقع
النبل في غبش الظلام". لنعلم مدى الأثر الذي يحققه الأدب عامة والشعر خاصة
في نفوس الناس.
كيف نحقق الأدب الدعوي؟
ويرى الدكتور عبد
الرحمن العشماوي (الأستاذ بكلية اللغة العربية سابقا) أنه لكي يسهم الأدب
في الدعوة إلى الله ويكون له الأثر الفعال، لا بد أن يدرك الأدباء أن للأدب
في الإسلام غايات تختلف عن غايات الأدب في غيره، ومن خلال تفهّم تلك
الغايات والسعي لتحقيقيها يتحول الأدب إلى وسيلة من وسائل الدعوة
الإسلامية، فغايات الأدب في الإسلام تسمو بالإنسان وترقى به في مدارج
الفضيلة، وتنقي ضميره من شوائب الرذيلة، وتسهم إسهاما فعالا في إقامة
المجتمع الإسلامي على أسس ثابتة من الحق والخير بما يفتحه أمامه من أفاق
ثقافية واسعة تعمل على إيجاد الحوافز البناءة فيه معنوية كانت أم مادية.
وهي تملأ النفوس بالأمل، وتبعد عنه شبح اليأس والقنوط، كما أنه يمكن من
خلالها غرس الولاء الصادق للإسلام شرعة وتاريخا، وتأكيد العبودية لله عز
وجل، وهو مع ذلك كله لا يغفل الجانب الروحي الوجداني ولا الجانب الإمتاعي
الترفيهي الذي تتطلع إليه النفس بطبيعتها البشرية، بل كل ذلك أمر مطلوب،
وبالتالي فإن الأدب يحقق للدعوة الإسلامية خدمات لا تستطيع تحقيقها الوسائل
المادية الأخرى.
القصص والشعر والنثر كلها تسهم في نشر الدعوة
ويبين
الدكتور طلعت عفيفي سالم (عميد كلية الدعوة بجامعة الأزهر) أن الأدب بجميع
أنواعه يمكن أن يسهم بصورة فعالة في النهوض بالدعوة الإسلامية، ولا أدل
على ذلك من عناية الإسلام به، ويضرب الدكتور طلعت بعض الأمثلة على ذلك
فيقول "إن من يتأمل القرآن الكريم مثلا ويرى مدى عنايته بالقصة -وهي ضرب من
ضروب الأدب- يوقن ما لها من تأثر على النفوس لأنها تتمتع بالقدرة على
توصيل المعلومات وتحقيق جملة من الفوائد تتقاصر عنها وسائل أخرى كثيرة،
فالإنسان يميل بفطرته ويولع بالقصص حتى إنك لتجده حريصا على متابعة أحداث
القصة حتى نهايتها، وهذا الأمر يشترك فيه العامة والخاصة، ولذا كانت القصة
دعامة من دعامات الدعوة ووسيلة من وسائلها، وقد احتوت على جانب كبير من
توجيهات القرآن الكريم يقارب الربع منه.
وإذا أتينا إلى السيرة النبوية
وجدنا مدى عناية النبي صلى الله عليه وسلم بالشعر والنثر – وهما من ضروب
الأدب أيضا كما هو معلوم- ألم يستقبل النبي صلى الله عليه وسلم الوفود في
المسجد، ويسمح لشعرائهم وخطبائهم بإلقاء ما عندهم من قصائد وخطب، حتى إذا
ما انتهوا أمر أصحابه من الشعراء والخطباء بالقيام للرد عليهم، ولولا ما
يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم من أثر ذلك في نفوس الناس لما حرص عليه
وأولاه تلك العناية حتى إنه ليجعل مكان هذا الاجتماع في المسجد، بل إنه
ليقول "اهجوا قريشا فإنه أشد عليهم من رشق النبل...." رواه مسلم وفي
البخاري عن أبي بن كعب رضي الله عنه - قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم :
"إن من الشعر حكمة " وهذا كله يعطي دلالة واضحة على أهمية عناية المسلمين
بالأدب عموما والشعر خصوصا باعتباره وسيلة من وسائل الدعوة المؤثرة
والنافعة.
الشعر والأدب من القوة التي أمر الله بإعدادها!!
ولا
يقتصر دور الأدب على كونه وسيلة من وسائل الدعوة إلى الله جل وعلا، بل إنه
يعتبر – وخاصة الشعر- من القوة التي أمر الله بإعدادها والاهتمام بها، بين
ذلك الدكتور ناصر بن عبد الرحمن الخنين (عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام)
حيث يقول: إنه بتتبع النصوص الشرعية لا يبقى لدى شعراء المسلمين أدنى شائبة
في أن ما وهبهم الله من ملكة الشعر يعد في ميزان الإسلام من القوة التي
أمرنا معشر المسلمين بإعدادها، وتسخيرها في سبيل الله لإعلاء كلمته والذب
عن دينه والدعوة إليه والتغني بمبادئه والتحلي بآدابه والتذكير بأيام الله
الخالدة، ومكافحة أعداء الإسلام والنيل منهم جزاء ما نالوه من الإسلام
وأهله بأقوالهم المنظومة أو المنثورة "
ويضيف الدكتور الخنين إن على
الأدباء المؤمنين أن ينهضوا -وهم إن شاء الله مؤيدون بروح القدس- للتنفيس
عن صدور المسلمين بقول الحق في الدفاع عن الإسلام وفي الدعوة إلى الله
وغير ذلك مما يحتسبونه عند الله عز وجل، وهذا ونظيره مما ينظم الشعراء
المؤمنين في سلك المجاهدين في سبيل الله المنتصرين لدينه، الذائدين عنه
بشعرهم كما ذاد عنه غيرهم من المؤمنين بأسلحتهم، وذلك كله من التعاون على
البر والتقوى، والجميع في جهاد ومجاهدة، وقد عد بعض العلماء ذلك من قسم
الشعر الواجب الذي يثاب فاعله ويعاقب تاركه مع مكنته من ذلك وقدرته عليه
وشدة حاجة المسلمين إليه. فقد أشار الشوكاني إلى ذلك حيث قال: "واعلم أن
الشعر في نفسه ينقسم إلى أقسام، فقد يبلغ ما لا خير فيه إلى قسم الحرام،
وقد يبلغ ما فيه خير منه إلى قسم الواجب"
ولا شك أن جميع فنون الأدب لاحقة بالشعر، وإنما كان التركيز عليه باعتبار أن الشعر هو أساس الأدب وأعظمه.
للأدب أيضا دوره في تثبيت النفوس
ولا
يقتصر مبدأ توظيف الأدب في الدعوة إلى الله على كونه دفاعا عن ا لإسلام أو
مظهرا لحقيقته، بل إن أثره أيضا يعود على المسلمين أنفسهم في تثبيتهم على
الدين وفي مواطن الجهاد، يقول الدكتور عبد الرحمن رأفت الباشا (الأستاذ
بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية رحمه الله): "إن النصوص تومئ إلى
حقيقة أخرى هي أن المسلمين كانوا يفزعون إلى هذا الأدب في ساعات الشدة،
ويستروحون به في أوقات المحنة، فتقوى به القلوب، وتهتز له المشاعر، فقد روى
البخاري في صحيحه أن رجلا سأل البراء رضي الله عنه فقال: يا أبا عمارة
أوليتم يوم حنين؟ قال البراء: أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يول
يومئذ، كان أبو سفيان بن الحارث آخذا بعنان بغلته، فلما غشيه المشركون نزل
فجعل يقول:
أنا النبي لا كذب**** أنا ابن عبد ا لمطلب
فما رئي من ا لناس يومئذ أشد منه.
ويضيف
أيضا "إن الأدب حين يغدو سلاحا في يد الدعوة والدعاة، ويتحول إلى لسان صدق
يهدي إلى الله عز وجل، ويحض على الخير والبر والإحسان، وينهى عن الفحشاء
والمنكر والبغي، ويغري بالفضائل ويزينها، وينفر من الرذائل ويقبحها، إنما
يدخل في رحاب الإسلام من أوسع أبوابه، ويستحق ثواب الله ورضوانه ومرضاة
رسوله، ويغدو الأديب الذي ينتجه أهلا لأن يلهم طيب القول ويهدي إلى
الصواب".
فهل يعي الأدباء قيمة الأدب وأثره في بناء المجتمعات
والدعوة إلى الله والدفاع عن الإسلام وأهله ومبادئه وعقيدته، فيسخروا
مقدرتهم الأدبية بشتى صنوفها في الدفاع عن هذا الدين ونشر توجيهاته
وإرشاداته لا في هدم الفضائل وتدمير القيم
منقول