لا شيء يكسر القلب مثل الأطفال التوحديين، فهم حاضرون غائبون
الانفصال التوحدي هو إعاقة نمائية مزمنة شديدة تظهر عادة في السنوات الثلاث الأولى من العمر. وبوصفه ينتج عن اضطراب عصبي يؤثر على أداء الدماغ، فإن التوحد وأعراضه السلوكية يحدث لدى (15) من كل عشرة آلاف طفل، وهو أكثر شيوعاً لدى الذكور منه لدى الإناث بمعدل أربعة أضعاف. وهو يحدث في كل دول العالم لدى الأسر من مختلف الشرائح العرقية والاجتماعية. والتوحد اضطراب مربك، لأنه يعبر عن نفسه بشكل مختلف في كل حالة. فبعض الأطفال التوحديين يعانون من ضعف عقلي شديد في حين أن أطفالاً آخرين يظهرون قدرات متميزة في الحساب أو في الذاكرة أو في الفن، ولكنهم يفتقرون إلى أي مهارات اجتماعية. وبعض الأطفال لا يتكلمون في حين أن بعضهم الآخر يتكلم وإن كان كلامهم غير واضح للآخرين من حولهم. وينزعج معظم الأطفال التوحديين من التغير في بيئتهم، أو يظهرون حركات من نفس النمط مثل هز الجسم أو اللعب بنفس الطريقة والانفصال عن البيئة والناس فيها. وكان الدكتور ليو كانر قد دحض الفكرة القائلة بأن التوحد ينتج عن أنماط سيئة من الأبوة والأمومة وشجع الباحثين والمعالجين على التعامل معه بوصفه اضطراباً عصبياً بيولوجياً.
وعلى الرغم من أن مستويات الشدة تختلف من طفل إلى آخر فإن العنصر المشترك بين الأطفال الذين لديهم توحد هو الافتقار إلى مهارات التواصل في مضمون اجتماعي. فعدم التواصل البصري، والتفكير المتمركز حول الملموس، والعجز عن معالجة المعلومات، والمشكلات الحسية والقلق والكلام الذي لا يعدو كونه صدى لكلام الآخرين، كل هذه العوامل تعيق قدرة الطفل على المبادرة إلى بناء علاقات اجتماعية متبادلة.
وتعرف عملية مقارنة الأنماط السلوكية للطفل الذي يراد تشخيص حالته بالأنماط السلوكية التي تلاحق عادة في الاضطرابات الأخرى بعملية "التشخيص الفارقي". والتخلف العقلي والاضطراب اللغوي حالتان يجب التأكد من عدم وجودهما قبل تشخيص الاضطراب على أنه توحد. كذلك يجب فحص الطفل للتأكد من عدم وجود مشكلات جينية أو طبية مثل الفينيل كيتون يوريا المعروف اختصاراً بـ ((PKU ومتلازمة الكروموسوم الجنسي الهش (Fragile X-Chromosome) حيث يصاحب الاضطرابان التوحد في بعض الحالات.
وتبعاً لدليل الجمعية الأمريكية للطب النفسي لتشخيص الاضطرابات العقلية (DSMIII) فالتوحد هو أحد أشكال "الاضطرابات النمائية العامة". ويقدم الدليل ستة عشر معياراً لتشخيص التوحد. وهذه المعايير تقع ضمن ثلاث فئات هي:-
أ- قصور التواصل اللفظي وغير اللفظي والنشاط التخيلي.
ب- قصور نوعي في التفاعلات الاجتماعية المتبادلة
ج- مدى محدود جداً من النشاطات والاهتمامات.
كذلك يجب أن تظهر هذه الأعراض منذ مرحلة الرضاعة أو الطفولة المبكرة. أما المعايير الستة عشر فيتم توظيفها على النحو التالي :
"يجب توافر ثمانية على الأقل من المعايير الستة عشر الواردة أدناه. وهذه المعايير يجب أن تشمل فقرتين على الأقل من الفئة (أ) وفقرة من الفئة (ب) وفقرة من الفئة (ج). ولا يعتبر المعيار متحققاً إذا كان السلوك شاذاَ بالنسبة للمستوى النمائي للطفل"
الفئة (أ) قصور نوعي في التفاعلات الاجتماعية المتبادلة يعبر عن نفسه كما يلي:-
(1) عدم الوعي بوجود الآخرين أو بمشاعرهم (يعامل الأشخاص وكأنهم أثاث، ولا يشعر مع الشخص الذي يبدو عليه الضيق، ولا يفهم حاجة الآخرين إلى الخصوصية).
(2) لا يشعر بالحاجة إلى مساعدة الآخرين له في الظروف الصعبة، أو أنه يعبر عن تلك الحاجة بطرق شاذة "فهو لا يبحث عن الراحة حتى عندما يكون مريضاً أو عندما يتعرض للأذى أو التعب، أو أنه يطلب العون بطريقة نمطية شاذة كأن يقول كلمة ما بشكل متكرر عندما يؤذى".
(3) لا يقلد الآخرين أو أن لديه قصوراً واضحاً في عملية التقليد "فهو لا يلوح بيده مودعاً، ولا يقلد نشاطات الأم في المنزل، أو يقلد الآخرين بطريقة ميكانيكية".
(4) لا يلعب لعباً اجتماعياً أو أنه يلعب بطريقة شاذة "لا يشارك بنشاط في الألعاب الجماعية، يفضل أن يلعب لوحده، ويستخدم الأطفال الآخرين في اللعب كأنهم أدوات"
(5) قصور كبير في القدرة على بناء علاقات صداقة.
الفئة (ب): قصور نوعي في التواصل اللفظي وغير اللفظي وفي النشاط التخيلي على النحو التالي:-
(1) لا يتواصل مع الآخرين وإنما يصدر أصواتاً غير مفهومة، ولا يظهر تعبيرات وجهية.
(2) يتواصل بطرق لفظية شاذة "لا يتوقع من الآخرين أن يقتربوا منه، يتشنج عندما يقترب منه الآخرون، لا يرحب بالوالدين أو بالزوار، يحملق بطريقة ثابتة في المواقف الاجتماعية".
(3) غياب النشاط التخيلي كلعب أدوار الراشدين مثلاً أو تمثيل حركات أو أصوات الحيوانات وعدم الاهتمام بالقصص التي تدور حول الأحداث التخيلية.
(4) إخراج الكلام بطرق شاذة سواء من حيث حدة الصوت أو معدله.
(5) اضطرابات ملحوظة في محتوى الكلام أو شكله بما في ذلك الكلام النمطي "مثل التكرار الميكانيكي لدعايات التلفزيون أو قول (أنت) بدلاً من(أنا) أو التكلم عن أشياء ليست ذات علاقة بالموضوع".
(6) قصور واضح في القدرة على تقليد الآخرين أو التحدث معهم رغم امتلاك الطفل للقدرة على الكلام "مثل التحدث عن نفس الموضوع على الرغم من عدم استجابة الآخرين".
الفئة (ج): ذخيرة محدودة جداً من النشاطات والاهتمامات تظهر من خلال:-
(1) الحركات الجسمية النمطية "مثل ثني اليدين، أو هز الرأس، وما إلى ذلك".
(2) الانشغال بشكل متواصل بأجزاء "شم الأشياء، أو تحسس ملمس الأشياء بشكل متكرر"، أو التعلق بأشياء غير اعتيادية "مثل الإصرار على حمل قطعة قماش أو خيط ......الخ".
(3) الإصرار بطريقة غير معقولة على إتباع نفس النمط في النشاطات "مثل الإصرار على إتباع نفس الطريق عند التسوق".
(4) الانفعال الشديد عند حدوث تغيرات في البيئة "كتغير مكان الكرسي في الغرفة".
(5) مدى محدود جداً من الاهتمامات أو الانشغال بشيء معين على الدوام "مثل الاهتمام فقط بوضع الأشياء فوق بعضها البعض".
الفئة (د): يجب أن يكون الاضطراب قد ظهر في السنوات الثلاث الأولى من العمر.
اضطرابات أخرى تشترك مع التوحد ببعض الخصائص العامة
(1) متلازمة اسبرجر: تشمل أعراض هذه المتلازمة قصوراً في مهارات التوازن، والاكتئاب، والكلام التكراري، وإخراج الصوت بنفس الوتيرة، وكراهية التغيير، وحب الروتين، وعدم القدرة على التفاعل مع الآخرين بشكل طبيعي. ومعظم هؤلاء الأطفال لديهم نسبة ذكاء عالية.
(2) متلازمة الكروموسوم الجنسي الهش: اضطراب جيني في الكروموسوم الجنسي الأنثوي (X) ومعظم الأفراد الذين يعانون من هذا الاضطراب لديهم تخلف عقلي بسيط إلى متوسط. وغالباً ما تظهر لديهم استجابات حركية تكرارية، وحساسية مفرطة للصوت، واضطراب في الأداء اللفظي وغير اللفظي، واضطرابات معرفية.
(3) متلازمة لاندو-كليفنر: في هذه الحالة ينمو الطفل بشكل طبيعي في السنوات الثلاث الأولى من العمر، ولكنه يفقد المهارات اللغوية بسرعة بعد ذلك. غالباً ما يشخص الطفل خطأ على أنه أصم. هناك حاجة لاستخدام التخطيط الكهربائي للدماغ لتشخيص هذه المتلازمة.
(4) متلازمة موبياس: تسبب عدة مشكلات في الجهاز العصبي المركزي بما فيها شلل عضلات الوجه، مما يؤدي إلى صعوبات بصرية وكلامية ومشكلات سلوكية كتلك التي تنتج عن التوحد.
(5) متلازمة رت: تحدث لدى الإناث في معظم الحالات، أعراضها تتمثل في عدم القدرة على استخدام اليدين إرادياً.
(6) متلازمة سوتوس: تسبب سرعة كبيرة في النضج وكبر حجم الجمجمة والتخلف العقلي وتعبيرات وجهية شاذة. ومن الأعراض المشابهة للتوحد: قصور المهارات الاجتماعية، الكلام التكراري، والدوران في نفس المكان.
(7) متلازمة توريت: تتصف "بالعرة الحركية اللاإرادية" كما في رمش العين، وتلمظ الشفاه وهز الكتفين بطريقة شاذة. غالباً ما يعاني الطفل من القلق وعدم التركيز.
(
متلازمة وليامز: اضطراب نادر يشترك مع التوحد ببعض الخصائص مثل التأخر اللغوي والحركي والحساسية المفرطة للصوت، وهز الجسم، والتعلق بالأشياء بطريقة غير طبيعية.
بقلم الدكتور: جمال محمد سعيد الخطيب مستشار المدينة العربية للرعاية الشاملة