د. رامي خليل نيازي*
يحتوي دماغ الإنسان على حوالي 100 بليون
خلية عصبية (Neuron) ويساندها ما بين ال 1 إلى 5 تريليونات من الخلايا
الدبقية (Glial Cells)، في نفس الوقت الذي ترتبط فيما بينها بحوالي 15
كوادريليون ( أي 15 وعلى يمينها خمسة عشر صفراً) وصلة عصبية (Synapse) بطرق
معقدة وإلى حد كبير لا زالت غير مفهومة. هذه المنظومة المعقدة تقسم الدماغ
إلى أجزاء شبه مستقلة وظيفياً والتي في الوقت ذاته تتعاون فيما بينها
كشبكات لتمكن الإنسان من القيام بمختلف المهام الذهنية والحركية والحسية.
فهم العلاقة بين نشاط الشبكات العصبية المختلفة وبين ما نشاهده من تصرفات
وإدراك وأفعال إنسانية (أو حيوانية) في مختلف الحالات الصحية هي المقصد
الأسمي لعلوم المخ والأعصاب. تصوير الرنين المغناطيسي الوظيفي (Functional
MRI أو fMRI) يعتبر من أحدث التقنيات التي في حوزة العلماء اليوم لمحاولة
الوصول لهذا المقصد، وذلك عبر فتح نافذة يمكن من خلالها مراقبة عمل الدماغ
عند القيام بمختلف مهامه وعلى اختلاف تعقيدها.
تقنية تصوير الرنين المغناطيسي (MRI) بحد ذاتها تعتبر جديدة نسبياً، إذا
ما قورنت بالأشعة السينية مثلاً (عام 1895م)، حيث تمت أول دراسة على
الإنسان في عام 1977م. منذ ذلك الوقت والتقنية تلقى رواجاً كبيراً وذلك
لمقدرتها الفريدة على إصدار صور مقطعية بالغة الوضوح والدقة خصوصاً للأنسجة
اللينة الغنية بالماء كالمخ والعضلات، وكذلك لسلامة استخدامها حيث انها لا
تستخدم أشعة مؤينة كجهاز الأشعة السينية أو التصوير المقطعي. ولا يكاد
يخلو اليوم أي مستشفى حديث من جهاز تصوير الرنين المغناطيسي لأهميته
التشخيصية. الجدير بالذكر أن مخترعي ال MRI البروفسور بول لوتربر
والبروفسور سير بيتر مانسفيلد قد حصلا على جائزة نوبل للطب في عام 2003
وذلك لتطويرهم لهذه التقنية.
جهاز تصوير الرنين المغناطيسي
يعمل ال MRI باستخدام مغناطيس قوي وموجات كهرومغناطيسية للحصول على صور
يعتمد التباين فيها على الخصائص الفيزيائية للأنسجة، الأمر الذي طالما
أتاح للأطباء الحصول على صور تشريحية يمكن التمييز فيها بين أنواع الأنسجة
المختلفة وتحديد أماكنها بدقة ونوعها وحالتها الصحية من حيث المظهر. في
أوائل التسعينيات اكتشف العلماء انه بالإمكان استخدام ال MRI لإصدار صور
يعتمد التباين فيها على مدى تشبع الدم بالأكسجين، مما مكنهم من دراسة وظائف
الدماغ حيث ان تفعيل خلايا الدماغ يؤدي إلى زيادة نسبة الدم المشبع
بالأكسجين فيها. على سبيل المثال، عند تحريك إصبع يتم تفعيل مناطق الدماغ
المسؤولة عن هذه الحركة، مما يؤدي إلى زيادة نسبة الدم المشبع بالأكسجين
فيها وبالتالي التقاط هذا التغير بواسطة الجهاز. هذا يعني أنه بإمكاننا
الآن استخدام ال MRI ليس لدراسة الشكل التشريحي للدماغ فحسب، بل ولدراسة
وظائفه وهو ما يعرف بتصوير الرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI). يتضح في
الصورة المرفقة صور للدماغ وقد تم تحديد بعض الأماكن الوظيفية فيه.
تصوير الرنين المغناطيسي الوظيفي يوضح الأماكن المفعلة في الدماغ عند القيام بأداء وظائف مختلفة
يستخدم العلماء اليوم ال fMRI لتحديد أماكن الدماغ المسئولة عن طيف واسع
من الوظائف كاتخاذ القرار والشعور بمختلف المشاعر وتمييز المرئيات والكثير
من الوظائف التي يستحيل حصرها. ومع أن معظم الاستخدامات لهذه التقنية لا
زالت في مجال البحث، فإن لها استخدامات سريرية مهمة وخصوصاً في مجال علاج
وإدارة حالات الصرع. يستخدم ال fMRI اليوم وبشكل روتيني (في البلاد
المتقدمة، وبشكل محدود في العالم العربي) لتحديد الأماكن المسئولة عن
الحركة واللمس وذلك لتجنب استئصالها بقدر المستطاع عند القيام بجراحة لمريض
الصرع، أو على الأقل لمعرفة المضاعفات المتوقعة للجراحة. كذلك يمكن
استخدام ال fMRI لمعرفة شق الدماغ المسئول عن اللغة والتخاطب وذلك كبديل
لإجراءات محدودة للجراحة تستخدم حاليا لهذا الغرض. مع أن بعض مستشفيات
المملكة بدأت بتجريب هذا التطبيق، إلا أنه يبقى تجريبياً وغير مؤسس حيث ان
جميع الطرق الحالية بلغات أجنبية ويلزم إجراء بعض البحوث للتأكد من جدواها
باللغة العربية، وفي حالة عدم صلاحيته يتوجب استحداث طرق جديدة متطابقة مع
اللغة والحضارة العربية.
في المستقبل القريب نأمل بتوفير تقنية تصوير الرنين المغناطيسي الوظيفي
بكامل طاقاتها في بلادنا الغالية، فضلا عن استمرار الأبحاث العالمية
والجهود الدولية الرامية لاستحداث تطبيقات سريرية أخرى خاصةً في مجال
الصرع، حيث تجري البحوث حول تحديد الأماكن المختصة بالذاكرة وتحديد البؤر
الصرعية بدقة وتكامل.
* مركز الأبحاث
الرياض